الذكاء الاصطناعي والكتابة الابداعية

Spread the love

الذكاء الاصطناعي والكتابة الابداعية: (من فتنة السرعة الى ازمة الخيال)

يشهد العالم المعاصر تحولا نوعيا في علاقة الانسان بالمعرفة والابداع، بفعل التنامي المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي التي لم تعد حكرا على المختبرات العلمية او القطاعات الصناعية، بل امتد حضورها الى الحقول الثقافية والادبية، حيث بات النص ينتج ويصاغ ويقترح في زمن قياسي. غير ان هذا الحضور، على ما يحمله من وعود بالتيسير والاختصار، يثير تساؤلات عميقة حول مصير الكتابة الابداعية، وجدوى الفعل الفني ذاته، في ظل امكانية الحصول على النصوص الجاهزة بضغطة زر واحدة.
ان الكتابة الابداعية، في اصلها، ليست عملية تقنية قابلة للاختزال في خوارزمية، بل هي مسار انساني معقد، يتاسس على التجربة الذاتية، والتفاعل مع الواقع، والاحتكاك الطويل باللغة بوصفها افقا مقاوما لا ينصاع بسهولة. فالكاتب لا يكتب لانه يمتلك الاجابة، بل لانه يسائل العالم ويعيد تركيبه عبر اللغة. غير ان الذكاء الاصطناعي، حين يقدم نصوصا سريعة ومصقولة، يغري المبدع بتجاوز هذه المسافة الضرورية بين الفكرة وتشكلها، فيتحول الابداع من فعل بناء بطيء الى استهلاك لغوي فوري.
وتتجلى هنا احدى اخطر سلبيات الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في مجال الكتابة الابداعية، اذ يسهم في اضعاف ما يمكن تسميته بالمعاناة الابداعية، وهي ليست عبئا زائدا، بل شرطا بنيويا لتشكل النص العميق. فاللغة لا تمنح امكاناتها الجمالية الا لمن يراكم التجريب والخطأ واعادة الكتابة، بينما تفضي النصوص الجاهزة الى نوع من الكسل التخييلي، يجعل الكاتب متلقيا لما كان ينبغي ان يكون صانعه.
كما ان النص الناتج عن الذكاء الاصطناعي، مهما بدا متماسكا من حيث البنية اللغوية، يظل في الغالب اسير النمط والتكرار، لكونه ينتج من داخل ارشيف لغوي سابق، لا من تجربة حية. وهو ما يهدد احد اهم اركان الكتابة الابداعية، والمتمثل في الصوت الفردي الذي يمنح النص فرادته واختلافه. فالاسلوب الادبي لا يقوم على سلامة اللغة وحدها، بل على الانزياح الواعي، والاختيار الجمالي، والبصمة الشخصية التي لا تتكرر. ومع شيوع النصوص الاصطناعية، يلوح خطر توحيد الاساليب وانتاج كتابة بلا ملامح، تشبه كل شيء ولا تشبه صاحبها.
ولا يقتصر اثر هذا التحول على مستوى الاسلوب فقط، بل يمتد الى بنية الخيال نفسها. فالخيال، بوصفه طاقة خلاقة، لا ينمو الا بالممارسة والمغامرة والاحتكاك بالاسئلة الصعبة. وحين يعتاد الكاتب على الاستعانة بالالة في توليد الافكار وبناء الصور وصياغة المقاطع، فان مخيلته تدخل تدريجيا في حالة خمول، قد تنتهي الى فقدان الثقة في القدرة الذاتية على الابتكار خارج الوسيط الرقمي. وهنا يتحول الذكاء الاصطناعي من اداة مساعدة الى سلطة خفية تعيد تشكيل فعل الكتابة من الداخل.
ويترتب عن ذلك تحول رمزي في موقع الكاتب نفسه، اذ ينتقل من كونه ذاتا خلاقة تنتج المعنى، الى مشغل اوامر يحسن توجيه الطلب اكثر مما يحسن بناء النص. وهذا التحول، وان بدا تقنيا في ظاهره، يحمل في عمقه مساسا بجوهر الادب بوصفه فعلا انسانيا مشحونا بالتجربة والذاتية والقلق الوجودي، وهي عناصر لا يمكن للخوارزمية، مهما بلغت دقتها، ان تستوعبها او تعيد انتاجها بصورة كاملة.
ان النقد الموجه الى الذكاء الاصطناعي في هذا السياق لا ينطلق من موقف عدائي للتكنولوجيا، بل من وعي بضرورة ترشيد استعمالها داخل الحقل الابداعي. فالخطر لا يكمن في الاداة ذاتها، بل في الاستعاضة بها عن الفعل الابداعي نفسه. ومن ثم، فان الرهان الحقيقي لا يتمثل في رفض الذكاء الاصطناعي، بل في اعادة ضبط العلاقة بينه وبين الكاتب، بما يحفظ للانسان دوره المركزي في انتاج المعنى، ويصون للكتابة بعدها الانساني العميق.

أحمد بنطالب.

Related posts

Leave a Comment